فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة طه:
طه: حرفان من حروف الهجاء، وليسا اسما للنبى- عليه الصلاة والسلام- ولم يرد ذلك في حديث صحيح! وهما من الحروف المفردة التى بدأت بها سور شتى، والله أعلم بمراده منها!. وقيل المراد إشعار العرب بأن القرآن كلام مكون من هذه الحروف التى تألفونها، ومع ذلك تعجزون عن الإتيان بمثله... وقد نزل القرآن الكريم وحيا من السماء، والصبغة السماوية ظاهرة في نظمه وهدفه. ولا يوجد له نظير في إثبات الوجود الأعلى والوحدانية المطلقة، والقارئ النزيه يشعر بأن القرآن يسوق الناس سوقا إلى ربهم، ويشرب قلوبهم خشيته، ويغمر عقولهم بنوره، ويريهم الآخرة رأى عين. والإنسان الذى استقبل القرآن زاكى البصيرة، نقى الفطرة، مشهور في الجاهلية الأولى بالصدق والأمانة، فما جرؤ ألد أعدائه أن يغمر شرفه، أو يقدح في سيرته. وقد ظن النبى- عليه الصلاة والسلام- أن قومه مصدقوه حين يتلوه، لأنه ما كذب قط! بيد أن تعصبهم لمواريثهم حملهم على رفض ماجاء به، ونسبوه إلى الافتراء والجنون!. والرجل الشريف عندما يتهم بما هو منه براء يحزن ويأسف، وقد يؤثر الضيق في صحته وينغص حياته. وذلك ماجعل رب العالمين يرحمه ويواسيه: لماذا تشقى بتكذيبهم؟ إنما أنت مذكر!! من تبعك نجا، ومن رفضك هلك.. {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن على العرش استوى} وهذه الأوصاف المتتابعة في إجلال الله وإعظامه ترتد إلى القرآن النازل من لدنه فترفع قدره، وإلى الرسول المبلغ له فتعلى شأنه... والتبليغ وظيفة شاقة، ومواجهة المكذبين الجفاة أمر معنت، وتصبيرا للنبى على لأوائه قيل له: لست وحدك الذى كلف بالتبليغ ومكابدة الخصوم المستكبرين، فقبلك موسى تحمل العنت في ملاقاة الفراعنة، وقيادة بنى إسرائيل، وهم شعب غليظ الرقبة، قاسى الطباع.
{وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى}. وقصة موسى تملأ أكثر السورة، وهى تسرد أولا كيف حاول هداية فرعون، ثم لقاءه مع السحرة، وكيف انتصر عليهم.. وتسرد ثانيا كيف ساس بنى إسرائيل، والمتاعب التى تحملها من قومه. ومع أن قصة موسى تكررت بضع عشرة مرة في الكتاب الكريم إلا أن سياقها يختلف اختلافا كبيرا في شتى مواضعه، وأنت واجد في كل موضع مالا تجده في الموضع الآخر. فهنا يصف موسى عصاه وصفا فيه إطناب السعيد بالحديث مع الله سبحانه: {قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} ولا يوجد هذا الوصف في سورة أخرى.. وانظر إلى وصف موسى لربه هنا، وهو يحدث عنه فرعون {قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى} إن هذا الوصف فريد هنا... لم تشتمله قصة أخرى. وكذلك اطرد هنا حديث السحرة عن إيمانهم بالله وكيف تشبثوا به، وصبروا على آلامه: {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا}... وأعقب قصة موسى حديث عن الآخرة يقص له شعر الرأس، ويقذف بالرعب في الأفئدة: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما}. إن هذا الوصف يزلزل كبرياء الكفر، ويحمل الناس حملا على الإيمان بالله والاستعداد للقائه، وقد لفت نظر العلماء أن مادة الذكر والنسيان وردت في هذه السورة في عشرة مواضع:
1- في قوله تعالى: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى} فالوحى تذكرة وتبصرة، ومحو للغفلة والذهول...
2- {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وإقام الصلاة: أداؤها في جماعة تصطف لها، وتستعد بدنيا ونفسيا لتسبيح الله وتحيته، ففى الحديث «تسوية الصفوف من إقامة الصلاة».
3- ويقول موسى بعد ما طلب هارون شريكا له في أعباء الرسالة: {وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا}.
4- ويقول الله لموسى بعدئذ: {اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري}.
5- ثم يجعل الغاية من الإرسال أن يفيق فرعون من غشيته، ويتوب إلى ربه {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}.
6- ويصف موسى علم الله بالكائنات في الأزل والأبد: {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}.
7- والطريف أن السامرى يصف العجل الذى صنعه، ويقول معه المخدوعون به: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي}!
8- وفى التعقيب على قصة موسى مع قومه يقول الله لنبيه: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا}.
9- ويقول الله تعالى في صفة القرآن الكريم وسر نزوله: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا}.
10- ثم يقول في إخراج آدم من الجنة بعدما كان مكرما فيها {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}. ثم يجيء هذا الإنذار العام للأفراد والجماعات {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}. فسورة طه في سياقها كله تعرض لخطورة الغفلة عن الله، والبعد عن توجيهه. إن النسيان العارض لا يخاف على صاحبه، فسرعان ما يتذكر، إن المخوف أن ينسج النسيان غشاوة طامسة تعمى معها البصيرة، ويطيش بها الهوى، ويصير المرء بها حطبا لجهنم.
والقصة الثانية في سورة طه هى قصة آدم. وقد بدأت بإظهار العلة في انهياره أمام إبليس ثم طرده من الجنة، لقد غامت رؤيته وضعفت إرادته، أو بتعبير القرآن الكريم {فنسي ولم نجد له عزما}. إنه كان صاحيا واعيا عندما نهى عن الأكل من الشجرة، لكنه على مر الأيام أخذ ينسى، وتنفك إرادته، وتشتد رغبته، ويستمع إلى الوساوس الكاذبة التى بثها إبليس في نفسه، خلود طويل، وملك عريض إذا أكل من هذه الشجرة: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى}. وأقبل آدم على الشجرة المحرمة يأكل منها، وأغرى امرأته فتبعته وطردا جميعا، والسياق القرآنى جازم في أن آدم هو المسئول، وذنب امرأته أنها لم تقاومه وتنصحه. وقد فقد آدم النعيم وفقدته معه امرأته، ونزلا معا إلى الأرض ليبدءا حياة مليئة بالمعاناة والشدائد.. والقصة الأولى تتكرر كل يوم في حيوات الأبناء! إن النسيان يغلبهم يجىء بعده السقوط، والجنة لا يرشح لها إلا ذاكر واضح الرقابة لله، عازم لا تنحل عقدته أمام المغريات!. ومن فضل الله أنه فتح أبواب التوبة أمام العاثرين حتى لا يحرموا رضاه إلى الأبد إذا زلت منهم الأقدام! فأما الذاهلون عن الله الصادون عن سبيله فلهم جزاء آخر {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}. ومع أن الدنيا ليست دار الجزاء إلا أن الله سبحانه قد يعجل للأشرار بعض العقاب، كما يعجل للأخيار بعض الرضا، عدلا منه وفضلا.. وننظر إلى آخر السورة فنراه متصلا بأولها اتصالا وثيقا، هؤلاء الذين آذوا رسول الله وملأوا بالحزن قلبه، ألا يخشون المصير الذى انتهى إليه أسلافهم؟ {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}!!. إن المعركة محتدمة بين الحق والباطل من بدء الخليقة. ومع أن حضارات بادت بما اقترفت من آثام، ومع أن الحق لم تخف معالمه مع ضراوة الحملات التى شئت عليه، فإن الأعقاب لم يرعووا عن غوايتهم، ولم يتركوا ألوية الهدى تسير!. ومع قصر حياتى بالنسبة إلى الزمان الطويل فقد رأيت مصارع لشهداء ماتوا كى تبقى الحقيقة، ورأيت دولا لطواغيت نسوا الله والمرسلين، بيد أن الحياة كر وفر، ومهما طالت الخصومة.
فالبقاء للأصلح {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. وقد وضع الله سننا لهذا الصراع الدائم، لا تلين مع عجلة المعجلين، ولا تطيش مع غرور المعتدين، وهذا معنى قوله: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} إن هناك نظاما مضت به السنن العليا لا يلين ولا يزيغ ثم اتجه الحديث بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم يواسيه ويسليه، بم؟ بالصبر وبتسبيح الله وتحميده، وهذا يشبه ختام سورة الحجر {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} والاستغراق في الحق يضيق المكان أمام الباطل فلا يبقى له متسع يستقر فيه، ولذلك قال الله لرسوله هنا: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى}. أى حتى لا تشقى من آلام التكذيب الذى يلقاك به الكافرون. والمرسلون- وحملة الدعوات- لا مسلاة لهم إلا في توكيد علاقتهم بالله واستمداد الأنس منها.. {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه} ربما كان الكافرون والعصاة أوفر حظوظا في الدنيا وأكثر استمتاعا بها! فلا قيمة لهذا ولا اعتداد به، فمصيره الهلاك، وقد سبق قول الكافرين مفتخرين بما أوتوا: {أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} وقد حكت السنة الشريفة أن عمر- رضى الله عنه- تألم حين رأى عيدان الحصير مطبوعة على جلد رسول الله وهو نائم في فراشه الخشن، وتذكر متعة كسرى وقيصر في الأثاث الفاخر والدنيا العريضة. ولكن النبى- عليه الصلاة والسلام- أفهمه أن هؤلاء قوم عجلت لهم طيباتهم فلا نأسى عليها {ورزق ربك خير وأبقى}. والأفضل والأشرف أن تنار البيوت بأضواء العبادة وطهرها. وأن يسودها جو التقوى والإقبال على الله، فيخرج أهلها منها وهم يحملون للناس الأدب والعفاف، لذلك قال الله لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}. ورجالات الإسلام لا ينافسون إلا في المكارم، ولا تصدر بيوتهم للناس إلا الأسوة الحسنة. والدهماء تشغل نفسها بما ضمن لها من رزق تكاد تموت وراءه من الهم، ولا تكترث بما كلفت به من واجبات، وهذا- كما قال ابن عطاء- من انطماس البصيرة... وعاد الكلام مرة أخرى إلى مشركى مكة فذكر تطلعهم إلى معجزة تقنعهم بصدق الرسول! ماذا يريدون؟ أن ينقلب الصفا ذهبا مثلا؟ ولو انقلب ما آمنوا، سيتخطفون سبائكه وينفقونها في الملذات!!. لقد جاءتهم المعجزة الدامغة المجدية فما أحسنوا النظر فيها {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى}؟ إن الله خصهم بكتاب جمع فيه كل الحكم التى تناثرت على ألسنة الأنبياء الأولين، فهلا انتفعوا بها؟ أليست لهم عقول؟. وإذا أخذهم الله بضلالهم وأنزل بهم العذاب، صاحوا: ماجاءنا من نذير!! هلا جاءنا من يوقظنا من سباتنا؟ لقد جاءكم نذير مبين فتصاممتم عن سماعه، فانتظروا العقبى {قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة طه:
أقول: روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن طه نزلت بعد سورة مريم، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع، مع التآخي بالافتتاح بالحروف المقطعة وظهر لي وجهه آخر، وهو: أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء، وهم: زكريا، ويحيى، وعيسى، الثلاثة مبسوطة وإبراهيم، وهي بين البسط والإيجاز وموسى، وهي موجزة بجملة أشار إلى بقية النبيين في الآية الأخيرة إجمالًا وذكر في هذه السورة شرح قصة موسى، التي أجمل هناك، فاستوعبها غاية الاستيعاب، وبسطها أبلغ بسط، ثم أشار إلى تفصيل قصة آدم، الذي وقع مجرد اسمه هناك ثم أورد في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر في مريم، كنوح، ولوط، وداود، وسليمان، وأيوب وذي الكفل، وذي النون، وأشير إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة، كموسى، وهارون، وإسماعيل، وزكريا، ومريم، لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه، ولم تذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة، ومع أنه مبسوطًا فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب، وبديع هذا الترتيب. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 6):

قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم} الواسع الحلم التام القدرة {الله} الملك الأعظم.
{الرحمن} الذي استوى في أصل نعمته جميع خلقه {الرحيم} الذي أتم النعمة على أهل توفيقه ولطفه.
{طه} أي تخلص بالغ من كل ما يخشى وظهر عظيم وطيب منتشر في كل قطر إلى نهاية الوطن الذي هو التاسع، ممن له الإحاطة التامة بكل غيب، وإليه يرجع الأمر كله، كما اجتمعت أسماؤه كلها في غيب هو الذي جعل العزة للمهتدين والهدى للمتقين.
هذه السورة والتي قبلها من أقدم السور المكية، قال هشام في تهذيب السيرة: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أم أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تبارك وتعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم.
فذكر إرسالهم إليه بهدايا ليردهم إليه، وأن بطارقته كلموه في ذلك، وأنه أبى حتى يسمع كلامهم، وأنه طلبهم فأجمع أمرهم على أن يقولوا الحق كائنًا فيه ما كان، فدخلوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ولم تدخلوا به في دين أحد من هذه الملل.
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنهم- فقال: أيها الملك! كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم.
وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.
فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان.
فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدرًا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ثم ذكر تأمينه لهم ورد هدايا قريش ورسلهم خائبين.
وقال ابن هشام: وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة رضي الله عنهما قالت: والله! إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر- رضي الله عنهم- في بعض حاجاتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم! والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجًا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، فجاء عامر- رضي الله عنهم- بحاجته تلك فقلت له: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر آنفًا ورقته وحزنه علينا! قال: أطمعت في إسلامه؟ قلت: نعم! قال: لايسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.
يأسًا منه.
لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام، قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- رضي الله عنهم، وكانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله بن النحام.
رجل من قومه بني عدي بن كعب.
قد أسلم- رضي الله عنهم-، وكان أيضًا يستخفي بإسلامه فرقًا من قومه، وكان خباب بن الأرت- رضي الله عنهم- يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنهما يقرئها القرآن، فخرج عمر يومًا متوشحًا بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطًا من أصحابه- رضي الله عنهم قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين- رضي الله عنهم أجمعين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله- رضي الله عنهم- فقال: أين تريد يا عمر؟ قال أريد محمدًا هذا الصابىء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم- رضي الله عنهم-: والله! لقد غرتك نفسك من نفسك ياعمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه فعليك بهما فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت- رضي الله عنهم- وعنهما، معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب بن الأرت- رضي الله عنهم- في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنهما الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئًا؟ قال: بلى! والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد- رضي الله عنهم- فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه- رضي الله عنهما-: نعم! قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفًا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد؟ وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لاتخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت: يا أخي! إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها، فلما قرأ منها صدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب- رضي الله عنهم- خرج إليه فقال له: يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم! أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر! فقال له عمر عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوحشه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلال الباب فرآه متوحشًا السيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال: يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوحشًا السيف! فقال حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنهم-: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب! فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله! جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر بن الخطاب مع إسلام حمزة- رضي الله عنهما-، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفون بهما من عدوهم، فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن أسلام عمر- رضي الله عنهم- حين أسلم.